يشهد قطاع البناء في المملكة العربية السعودية تحولًا جذريًا نحو تبنّي تقنيات جديدة تُعيد تعريف مفهوم الاستدامة في العمارة، ومن أبرز هذه التقنيات ما يُعرف بـ المواد الذكية. لم يعد الأمر مجرد تحسين في جودة المواد التقليدية، بل أصبح ثورة علمية تجمع بين الهندسة والذكاء والتكنولوجيا لبناء مدن أكثر وعيًا بالبيئة، وأكثر كفاءة في استهلاك الموارد.
ما هي المواد الذكية؟
المواد الذكية هي فئة من مواد البناء تمتلك القدرة على الاستجابة للتغيرات البيئية المحيطة بها مثل الحرارة، والرطوبة، والضغط، والضوء، وتقوم بتعديل خصائصها بشكل تلقائي دون تدخل بشري مباشر.
فهي مواد “حية” بمعنى أنها تتفاعل مع البيئة كما يتفاعل الكائن الحي، فتُغلق المسام عند تسرب الماء، أو تغيّر لونها لتقليل امتصاص الحرارة، أو تُصلح نفسها عند حدوث شقوق أو أضرار.
أنواع المواد الذكية المستخدمة في العمارة الحديثة
تختلف أنواع هذه المواد باختلاف استخداماتها، ولكن من أكثرها شيوعًا:
- الخرسانة ذاتية الإصلاح: تحتوي على بكتيريا أو مواد كيميائية تملأ الشقوق تلقائيًا عند ملامسة الماء، ما يطيل عمر المباني ويقلل تكاليف الصيانة.
- الزجاج الكهروضوئي: يتحكم في نفاذ الضوء والحرارة حسب درجة الإشعاع الشمسي، مما يقلل الحاجة للتكييف والإضاءة الصناعية.
- الدهانات الذكية: يمكنها تغيير اللون حسب درجة الحرارة أو شدة الضوء، وتُستخدم في الأسطح الخارجية لتقليل امتصاص الحرارة.
- المواد متغيرة الشكل (Shape-memory materials): تعود إلى شكلها الأصلي بعد تعرضها لتشوه، مما يتيح استخدامها في الهياكل المتحركة أو القابلة للتكيّف.
الاستدامة كمبدأ أساسي في البناء الحديث
تُعد الاستدامة اليوم حجر الزاوية في التخطيط المعماري في المملكة، وخصوصًا ضمن رؤية السعودية 2030 التي تضع البيئة ضمن أولوياتها الاستراتيجية.
المدن الجديدة مثل نيوم والقدية والبحر الأحمر تتبنى فلسفة العمارة الذكية التي تُقلل من استهلاك الطاقة والمياه، وتستخدم موارد قابلة للتجديد.
في هذا السياق، أصبحت المواد الذكية جزءًا محوريًا في تطوير بنية تحتية قادرة على التفاعل مع البيئة بدلاً من مقاومتها.
كيف تُغيّر المواد الذكية وجه العمارة في السعودية؟
في المناخ السعودي، حيث درجات الحرارة المرتفعة صيفًا والاختلافات المناخية بين المناطق، تأتي المواد الذكية كحل فعّال لتقليل الاعتماد على أنظمة التبريد المكلفة للطاقة.
على سبيل المثال، المباني التي تستخدم الزجاج المتحوّل حراريًا يمكنها تقليل استهلاك الكهرباء بنسبة تتجاوز 30%، فيما تساعد الأسطح المطلية بمواد عاكسة ذكية في خفض درجات الحرارة داخل المبنى بمعدل 5 إلى 10 درجات مئوية.
هذا يعني أن الراحة الحرارية يمكن تحقيقها بذكاء، دون استنزاف للطاقة أو الإضرار بالبيئة.
الاقتصاد الدائري في البناء
إلى جانب توفير الطاقة، تسهم المواد الذكية في دعم مفهوم الاقتصاد الدائري، حيث يمكن إعادة تدويرها أو إصلاحها ذاتيًا دون الحاجة لاستبدالها.
هذا يقلل من النفايات الناتجة عن أعمال الصيانة والهدم، ويجعل من قطاع المقاولات شريكًا فاعلًا في تقليل البصمة الكربونية.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أن استخدام مواد بناء ذكية في مشاريع المملكة قد يساهم في خفض الانبعاثات بنسبة تصل إلى 20% خلال السنوات القادمة.
التكامل بين الإنسان والتقنية في العمارة السعودية
ما يميز النهضة العمرانية الحالية في المملكة هو الدمج بين الهوية المحلية والتكنولوجيا المتقدمة.
المهندس السعودي لم يعد يقتصر على استخدام الحجر أو الخرسانة التقليدية، بل أصبح يستفيد من العلم والتقنية لتصميم مبانٍ تتنفس وتفكر وتتكيف.
هذا التكامل يخلق عمارة سعودية جديدة، تجمع بين الطابع المحلي الأصيل والتقنيات الذكية التي تواكب المدن العالمية.
التحديات في تطبيق المواد الذكية
رغم المزايا الكبيرة، لا يزال هناك بعض التحديات في تطبيق المواد الذكية على نطاق واسع في مشاريع البناء:
- ارتفاع التكلفة الأولية مقارنة بالمواد التقليدية.
- قلة الخبرة المحلية في التركيب والصيانة.
- الحاجة إلى تطوير تشريعات ومعايير هندسية جديدة لتنظيم استخدامها.
ومع ذلك، بدأت الجامعات السعودية والمراكز البحثية بالفعل في دراسة خصائص هذه المواد محليًا، لتطوير بدائل وطنية أقل تكلفة وأكثر توافقًا مع البيئة السعودية.
دور المهندس السعودي في تبني الحلول الذكية
اليوم، المهندسون السعوديون يقودون التحول في طريقة تصميم وتنفيذ المشاريع، ليس فقط في الأبراج أو الفلل السكنية، بل حتى في المدارس والمستشفيات والمباني الحكومية.
يتجه الجيل الجديد من المعماريين نحو الهندسة المستدامة التي توظف التقنية لخدمة الإنسان والمكان، ويبحثون عن حلول تجعل المباني “حية” تتفاعل مع مستخدميها.
conclusion
إن المواد الذكية تمثل مستقبل البناء في المملكة، فهي ليست رفاهية معمارية، بل استثمار طويل الأمد في بيئة أكثر كفاءة واستدامة.
ومع التقدم السريع في مجالات البحث والتطوير، ومع المشاريع الضخمة التي تشهدها المملكة، يُتوقع أن تتحول هذه المواد من تقنية مستقبلية إلى معيار أساسي في كل مشروع سعودي خلال العقد القادم.
إنجينيير تالك يؤمن أن الهندسة ليست فقط ما نراه في الخرائط والمخططات، بل هي فكر متجدد يتطور مع كل اكتشاف جديد — وفِي المواد الذكية، نرى اليوم مستقبل العمارة السعودية يتشكل بوعي، علم، وإبداع.

